الأربعاء، 30 أبريل 2014

الشيخ عبدالله الحكيمي


ولد سنة 1318 هـ / 1900 م في قرية (حليس)، من عزلة (الأحكوم)، من بلاد (الحجرية)، في محافظة تعز، وتوفي في مدينة عدن عام 1954 م .

نشأ في حي (الشيخ عثمان) بعدن، ودرس على بعض علمائها، ثم التحق جنديًّا في الجيش العربي في عدن، ورقي إلى رتبة ضابط، ثم ترك الخدمة العسكرية، وعمل ملاحًا بإحدى البواخر، وتنقل إلى عدد من البلدان؛ منها: الجزائر، التي استقر فيها مدة ثم رحل إلى بريطانيا؛ مرشدًا، وداعية إسلاميًّا، واتخذ من مدينة (كارديف)، مقرًّا لإقامته، وأنشأ هناك (الجمعية العلوية)، لتدريس أبناء المغتربين، ومارس أنشطة دعوية، وأسلم على يديه عدد من الإنجليز، كما أسسس (المركز الإسلامي الأعلى) لمسلمي كارديف، وملحقاتها.

رجع إلى مدينة عدن، عام 1359هـ/1940م، وحاول ولي العهد (أحمد بن يحيى حميد الدين)، أن يستميله لصالحه، بعدما سمع عنه وعن نشاطه السياسي، والديني، وأرسل إليه سرًّا الأستاذ (أحمد محمد نعمان) ـ مدير معارف تعز حينها ـ فرفض عرض ولي العهد، وفضل العودة إلى بريطانيا، وظل على علاقة وثيقة برجال الحركة الوطنية، الذين فروا إلى عدن؛ كالأستاذ (أحمد محمد نعمان)، والأستاذ (محمد محمود الزبيري)، والشاعر (زيد بن علي الموشكي)، والأستاذ (أحمد محمد الشامي)، وغيرهم.
وبعد فشل ثورة الدستور، عام1367هـ/ 1948م، لمع اسمه وصوته، مدافعًا عنها، وأصدر في سبيل ذلك جريدته المسماة: (جريدة السلام)، داعيًا إلى العدل، والحرية، والمساواة، وحفلت أعداد جريدته بمواضيع، وبحوث متميزة عن القضية اليمنية.
وبعد أن أصدر مائة وسبعة أعداد من هذه الجريدة ؛ قرر العودة إلى عدن، ليواصل الجهاد عن قرب، وكانت أفكاره وطنية، إصلاحية، تدعو إلى العلم، والوحدة، واتباع تعاليم الإسلام، وانتهاج القدوة الحسنة؛ .

من مؤلفاته: 1-الأسئلة والأجوبة بين المسيحية والإسلام. 2-دين الله واحد. 3-دعوة الأحرار.



الشيخ عبدالله علي الحكيمي، من مواليد الأحكوم -الحجرية بمحافظة تعز، تلقى تعليمه الأولي في كتاب القرية، ثم في مدينة عدن المستعمرة حينذاك، والتحق بالجيش العربي الذي أسسه المستعمرون باسم الكتيبة العربية الأولى عام 1918م-1924، وفي عام 1925م التحق بالعمل كبحار في إحدى البواخر الفرنسية، وتنقل في عدد من الموانئ والمدن الآسيوية والأفريقية والأوروبية، كانت مدينة مستغام الجزائرية إحدى أهم المحطات التي حددت مسار حياته، حيث التقى فيها الشيخ أحمد مصطفى العلوي، إمام الطريقة الصوفية العلوية، وأخذ عنه علم التصوُّف والتوحيد والفقه واللغة، ثم أذن له في الدعوة وتنشئة المريدين وأسس عدداً من الجمعيات والزوايا في بلجيكا وفرنسا وبريطانيا واليمن، للاهتمام بأمور المسلمين وتنظيم شؤونهم، وعمل على نشر الدعوة بين الأوروبيين وأسلم على يديه ما يزيد عن 500 شخص، وكان له نشاط تحريضي ضد الإمام يحيى حميد الدين ونظامه المتخلف، من خلال صحيفة (السلام) التي أصدرها في مدينة كارديف ببريطانيا، وصدر عددها الأول في 6 ديسمبر 1948م، وكذل من خلال رسائله التي كان يوجهها إلى قادة العالم، أو خطبه التي كان يلقيها على اليمنيين في مهاجرهم المختلفة ولقبه الأحرار اليمنيون بـ(الزعيم) باعتباره الأب الروحي لهم، واعترافاً منهم بدوره الريادي في تنظيم حركتهم عند تأسيس حزب الأحرار عام 1944م ثم الجمعية اليمنية الكبرى عام 1946م، وكانت صحيفة (السلام) بمثابة صوت الأحرار بعد فشل حركتهم عام 1948.
وكان قد عاد إلى اليمن من المهجر لآخر مرة في يناير 1953م بعد ثورة 23 يوليو 1952م في مصر، وكانت عودته بطلب من الأحرار ليباشر بنفسه قيادة العمل الوطني في اليمن، فاختير ليكون رئيساً للاتحاد اليمني في 25/10/1953م.. ولنشاطه السياسي المعارض لسلطة الإمامة في شمال الوطن، تحالف ضده نظام سلطة الاحتلال في جنوب اليمن ونظام الإمامة في شماله، فاعتقل في عدن بتهمة ملفقة لمدة ثلاثة أشهر ونيف، ثم أطلق سراحه، ولكنه مات شهيداً في 4 أغسطس عام 1954م، بعد أن كان قد ترك ثلاثة كتب قيمة هي (دين الله واحد، دعوة الأحرار، الأسئلة والأجوبة بين المسيحية والإسلام).. (أنظر الغلاف الخلفي لكتابه دعوة الأحرار).

3- منهج الحكيمي في الدعوة إلى الله :
كان الشيخ الحكيمي قد وجد نفسه يعمل في بيئة غير إسلامية، وهي بريطانيا، فاضطرته ظروف الحياة ليعيش في وسط مسيحي، مع وجود عدد قليل من المسلمين الوافدين إلى تلك الديار، فكان عليه واجب الدعوة إلى الله في اتجاهين:
- الاتجاه الأول : توجيه إخوانه المسلمين للتمسك بدينهم، وإرشادهم لما ينبغي عمله للحفاظ على عقيدتهم، وكيفية التعاطي مع الشعائر الإسلامية، وممارسة العبادات في مجتمع مسيحي.
- الاتجاه الثاني : بذل المحاولات للتعريف بالإسلام في المجتمع البريطاني ذي الغالبية المسيحية، وعمل المستطاع لإقناع بعض المسيحيين باعتناق الإسلام.
ففي الاتجاه الأول قام الشيخ الحكيمي بنشاط تثقيفي واسع في أوساط المهاجرين اليمنيين وغيرهم من أبناء الجاليات الإسلامية، وبذل ما في وسعه لتقوية الإيمان في نفوسهم انطلاقاً من أن "الإيمان هو السياج الذي يحفظ للمجتمع أمنه وسلامته، ويوفر للفرد طمأنينته وسعادته، والناس بدون إيمان يصبحون كوحوش في غابة الحياة، تسيطر عليهم الأنانية، ويحكمهم حب الذات، وتوجههم المطامع، ومن ثم يفقدون الأمن والطمأنينة وهدوء القلب، وسعادة النفس، وراحة البال" (عفيفي، 1985م، ص37).
وبذل الحكيمي ما في وسعه لإقناع مسلمي بريطانيا أن المسلم الحق، هو المؤمن حقاً، الذي يحقق السلم على نفسه، وعلى إخوانه، وعلى مجتمعه الذي يعيش فيه، أما غير المؤمن فهو حرب على نفسه، يدمرها بما يكنه فيها من حقد وحسد وعداوة وبغضاء، ويتسلط عليها بما يقضي عليها كتناول الخمر والمخدرات، استجابة لشهواته التي لا تنتهي، ونزواته التي لا تقف عند حد.. وهو حرب كذلك على إخوانه بما يضمر لهم من سوء وأذى، وما يدبره من مكر وخديعة، وأنه كذلك حرب على مجتمعه، بما ينشره في ربوعه من فساد، وما يبثه من رذيلة، وما يكنه لأفراده من حقد وحسد وعداوة وبغضاء.
وحاول الحكيمي تحذير مسلمي أوروبا من مغبة ضعف الإيمان في مجتمع غير إسلامي، فالذي خرب داخله من معاني الإيمان، يكون شخصاً أنانياً لا يرى إلا ذاته ولا يحب إلا نفسه، ومثله لا يستطيع أن يعيش في مجتمع غريب عنه، فهو بأنانيته سيكون حرباً على غيره، لأنه يريد هدم الكل ليبني على أنقاضهم مجد نفسه، ويريد القضاء على الجميع ليصعد على أشلائهم إلى القمة، أما الذي يعمر الإيمان قلبه، ويضيء جوانب نفسه، فإنه ينأى بنفسه عن الأنانية وحب الذات، امتثالاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".. (رواه الشيخان عن أنس).
وبذل الحكيمي ما في وسعه لإقناع المهاجرين اليمنيين وغيرهم من أفراد الجالية الإسلامية في بريطانيا بأهمية التمسك بدينهم وضرورة الحفاظ على تماسكهم ووحدتهم، وإلا فإنهم سيذوبون في المجتمع البريطاني، وسرعان ما يفقدون هويتهم.
ولكي يكون نشاط الحكيمي في إطار مؤسسي قام بتأسيس (الجمعية الإسلامية العلوية الصوفية الشاذلية) في عام 1936م لتحقيق جملة من الأهداف منها: (طاهر،2005، ص141)
- تحفيظ القرآن الكريم لأبناء المسلمين، وتعليمهم العلوم الإسلامية واللغة العربية.
- رفع مستوى الحياة الاجتماعية والثقافية لأبناء المسلمين في بريطانيا.
- تأسيس مسجد للمسلمين لتأدية الصلوات المفروضة، وإقامة الاحتفالات الدينية، لتكون كمجمع علمي إسلامي.
- تأسيس مكتبة عربية للمطالعة تحتوي على المؤلفات الإسلامية.
- تعليم البنات المسلمات في مدارس خاصة ورعايتهن رعاية خاصة.
- توثيق الروابط الثقافية والاجتماعية والتعارف بين المسلمين وغيرهم.
- الاهتمام بإرسال البعثات من أبناء المسلمين للدراسة في الأزهر الشريف والجامعة المصرية، لاستكمال دراستهم والعودة إلى بلادهم لتثقيف غيرهم من أبناء المسلمين.
ولم تكن مهمة الحكيمي سهلة ولا ميسورة في نشر الدعوة، إذ واجهته جملة من الصعوبات والمعوقات، منها أنه ينشر دعوته في بيئة غير إسلامية وفي مجتمع غالبيتهم من المسيحيين، وبين مسلمين يجهلون حقيقة دينهم، في مرحلة كان العداء للدين الإسلامي على أشده، في وسط جاليات إسلامية مفككة، وضعيفة، وغير قادرة على الدفاع عن دينها، أو ممارسة شعائرها الدينية، وساءه أن يرى مبادئ الدين الإسلامي وتعاليمه قد انطمست لدى كثير من المسلمين المهاجرين إلى أوروبا، وانغماس بعضهم في المجتمع الأوروبي والتخلي عن هويتهم الإسلامية، وسعي الكثير منهم وراء كسب لقمة العيش، بصرف النظر عما إذا كان مصدر الكسب حلالاً أم حراماً.
ولكن الحكيمي بما يمتلك من قدرة على التأثير، وما لديه من نشاط وحيوية استطاع تنظيم الجاليات العربية الإسلامية في بريطانيا وبعض المدن الأوروبية، فكان ينتقل من مدينة إلى أخرى يلتقي أبناء الجاليات العربية الإسلامية فيها، ويسعى لتأسيس فروع للجمعية الإسلامية العلوية في الأماكن التي يكثر فيها تواجد المسلمين، وكان قد نجح بعدها في تحقيق ما يلي: (المنصوب، 2001، ص157).
- توحيد كلمة المسلمين وإعطاؤهم قوة واعتباراً.
- إجراء عقود الزواج الشرعي للمسلمين.
- إجراء الختان لأبناء المسلمين وتسمية أولادهم بأسماء إسلامية، وتنشئتهم تنشئة إسلامية.
- إيجاد مقابر خاصة بالمسلمين، وتجهيز موتاهم ودفنهم على الطريقة الإسلامية.
- إبطال عادة مخالفة الأيدي بين المسلمين بالمحاكم عند حلف اليمين.
- إقامة الشعائر الدينية في الأعياد وغيرها.
- إيجاد مجازر للذباحة وفقاً للشريعة الإسلامية.
- شراء ثلاثة بيوت، وبناء مسجد (نور الإسلام) في كارديف.
- الاتصال بالأزهر الشريف بهدف ابتعاث عدد من الطلبة من أولاد المسلمين لتدريسهم وإعدادهم كدعاة، وتنفيذ أول بعثة.
- اعتناق أكثر زوجات المسلمين الإنجليزيات الديانة الإسلامية، وكذا بناتهم وأولادهم.
أما الاتجاه الثاني، فإن الحكيمي قد نحا فيه منحىً متميزاً في التعريف بالإسلام، وقدمه للأوروبيين أحسن تقديم، وقام بواجب الدعوة الإٍسلامية في الأوساط المسيحية في بريطانيا، وأسلم على يديه كثيرون، عن طريق الحوار بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل الفكري، وإقامة الحجة والدليل، وعدم كراهية الآخر، مهما اختلف معه في الدين والمذهب..(سعيد، 2001، ص109).

4- منهج الحوار عند الحكيمي:
كان الحكيمي قد أرسى قاعدة ثابتة للحوار مع المسيحيين وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى، أساسها أن دين الله واحد، وأن الديانات السماوية مهما اختلفت فإنها تقر أن الدين عند الله الإسلام، وأن الله لم يطلب من الناس أكثر من الاستسلام له بظاهر القول والعمل وصدق الاعتقاد بأن الله واحد.
وحاول الحكيمي أن يجمع ما استطاع من الأدلة العقلية والنقلية ليؤكد بها على أن دين الله واحد.. كقوله إن (العقل والمنطق لا يقران القول بتعدد الأديان إذ لو تعددت الأديان لتعددت الآلهة) وقوله: (إنه ليس لأحد دين يخالف به دين الآخر ولو أن الله أعطى لكل نبي ديناً يخالف دين الآخر لكان بذلك قد فتح لهم باب الفتنة، ورضي بالتنازع والتفرقة بين العباد وأنه لا سبيل إلا أن تشب المعاصي للعباد، إذا كان الله باذر الشقاق والنزاع)(نفسه، ص9).
وكان الحكيمي قد هيأ نفسه لمحاورة القساوسة المسيحيين، فاستلزم ذلك دراسته للغة الإنجليزية وإتقانها، ودراسة المنطق والفلسفة لإجادة أساليب الحوار وطرائق الإقناع، ودراسة الكتب المقدسة لدى المسيحيين، والتضلع بعلوم الدين الإسلامي حتى يستطيع محاورة القساوسة المسيحيين، والرد على افتراءاتهم حول الإسلام أو سوء فهمهم له، وتصعيد مزاعمهم المغرضة لتشويه الإسلام وإبراز مزايا الإسلام وخصائصه في مواجهة خصومه.
ولقد كان الشيخ الحكيمي جريئاً حين قرر أن يطرق أبواب الكنائس الأوروبية ويحاور القساوسة في مقر كنائسهم أو يدعوهم إلى مسجده في كارديف.. وكانت تلك الحوارات تنشر في الدوريات الكنسية وهي التي ساعدت على اعتناق عدد من الإنجليز دين الإسلام.
وكان الشيخ الحكيمي قد تعرّف على موقف القساوسة من الإسلام، ثم حاورهم في الأسئلة الهامة التي وجهت إليه من قبل بعض القساوسة والرهبان المسيحيين في بريطانيا، والتي نشرها في صحيفة (السلام) التي كان يصدرها ببلدة (كارديف) ببريطانيا، وذلك في العدد رقم 15 الصادر في 17 جمادي الأولى 1368هـ الموافق 17 مارس 1949م ولم يتمكن وقتها من نشر أجوبته عن تلك الأسئلة، ولكنه قام فيما بعد بنشر الأسئلة والأجوبة في كتاب مستقل أسماه: (الأسئلة والأجوبة بين المسيحية والإسلام) صدرت الطبعة الأولى منه في عدن عام 1955ـ عن مطبعة السلام التي كان يمتلكها.. كما قام بتأليف كتاب آخر أسماه (دين الله واحد) صدرت الطبعة الأولى منه في كارديف عام 1952م، عن مطبعة السلام التي يطبع فيها صحيفته (السلام).
وكان الشيخ الحكيمي قد نجح في إقناع بعض المسيحيين الإنجليز، للدخول في الإسلام عن طريق الحوار الموضوعي، والجدل الفكري المنطقي، بإقامة الحجة والدليل، وعدم الترفع عن الآخر، فأرسى بذلك قاعدة علمية للحوار تقوم على الأسس الآتية: (العجمي، 1423، ص32):
1- التخلص من جذور العداء والدخول إلى الحوار بروح جديدة تتجاوز ما كان من لغة التعصب واتهام كل ثقافة للأخرى.
2- تغليب الجانب الإنساني وتحويله إلى واقع بدلاً من أن يظل كلاماً فقط، كما في مسألة حقوق الإنسان والسلام العالمي ونحوه.
3- عدم الاعتداء على الخصوصيات الثقافية، بل العمل على احترامها لأنه من غير المعقول أن يكون للعالم كله ثقافة واحدة مع اختلاف عقائده ومذاهبه الفكرية والسياسية.
4- التخلص من عقدة الاستعلاء لدى الغرب، وعقدة الاتهام لكل ما هو غربي من المسلمين، بل يكون الحوار على مستوى الندية واحترام الرأي الآخر، حتى ولو كان مخالفاً.
5- الإيمان بأن حوار الثقافات لا صدام الثقافات هو أقرب الطرق إلى تجنيب العالم ويلات الحروب وأخطار أسلحة الدمار، وخاصة أن الحرب الحديثة قد تؤذي مشعلها قبل غيره.
6- الإقرار بمبدأ التدافع ومبدأ الحرص على المصالح، وأن المسلمين لا مانع لديهم أن يتعاملوا مع الغرب على أساس المصالح المشتركة من خلال نظام عالمي عادل، تتنافس فيه الشعوب والأمم فكرياً وسياسياً واقتصادياً، ضمن قواعد محددة تكفل الحقوق وتمنع الظلم.
7- تجنب العبارات والتصريحات المثيرة للضغائن، كقول المسلمين اليوم مثلاً: إن الإسلام هو البديل للحضارة الغربية، وكقول الغرب: الإسلام هو العدو الباقي بعد سقوط الشيوعية، لأن هذه التصريحات لا تفهم إلا على أنها تحد، وإعلان حرب بشكل أو بآخر.
8- الالتزام بالنقد الموضوعي للذات من قبل كل ثقافة لأن هذا سيفتح الباب أمام المشترك الصواب بدلاً من الجدال حول الخطأ الشائع.
9- على المسلمين المقيمين في الغرب والنصارى المقيمين في الشرق أن يدركوا معاً أن الأرض التي يحيا عليها كل منهم تلزم ساكنها ببعض الضوابط والانتماء حتى لا يفسد أهل الأرض فيها، لأن هذا قاتل للاستقرار، فضلاً عن مجافاته.
وقد عبر الشيخ الحكيمي عن هذه الأسس في إهدائه كتابه (دين الله واحد) حيث قال: "أقدم كتابي هذا هدية إلى إخواني الأعزاء من بني الأسرة الإنسانية على اختلاف طبقاتهم ومذاهبهم"(الحكيمي، (1) 1952، ص3).
وتولى الشيخ الحكيمي تقديم إيضاحات كاملة عن بعض الموضوعات الحيوية التي هي مثار خلاف بين الإسلام والمسيحية، كان قد نشرها في صحيفة (السلام) إضافة إلى الكتابين اللذين خصصهما لهذا الغرض، وهما: دين الله واحد، وبالأسئلة والأجوبة بين المسيحية والإسلام.
ومن بين الموضوعات التي قام بمناقشتها في الكتابين ما يلي:

1- التأكيد على واحدية الدين:
كان الحكيمي قد أسس حواره الفكري مع رجال الدين المسيحي على الإيمان الراسخ بأن دين الله واحد، وفي ذلك يقول: "منذ خلق الله خلقه، وأنزل عليهم كتبه، وأرسل إليهم رسله، لن يكون له في ذلك كله إلا دين واحد وهو الإسلام الذي جاء به الأنبياء، ودعت الأمم إليه مبشرة بأنه دين السلام والأمان الذي يضمن للناس جميع حقوقهم ومصالح حياتهم، ويمنحهم حرية لا رق فيها ولا ظلم ولا جور، وقيماً سامية عليا، ولا يمكن الخضوع فيها إلا لله وحده، لا لأحد سواه، ولما كان الإسلام دين الأولين والآخرين، فلن تختلف إلا صوره ومظاهره، أما أصله –روحه وحقيقته- فواحد لا ثاني له"..(الحكيمي(1)، 1952م، ص4).

2- إنكار عقيدة المسيحيين في المسيح:
أنكر الشيخ الحكيمي على المسيحيين قولهم أن المسيح ابن الله فقال: "وقولكم أن المسيح ابن الله فهذا قول إفك وزور وافتراء منبوذ مردود، لأن الله فرد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحد، وليس هو جسم ولا عرض، وإذا قلتم أنها نسبة مجازية، ولا أعتقد أنكم تقولون ذلك، فأقول إن نسبة المجاز تطلق على الناس كلهم أنهم عيال الله، ونحن من أولئك العيال، وليس المسيح إلا فرداً واحداً منا في هذا الانتساب بالنبوَّة، وأنتم تتلون كتبكم وتدرسونها وتجدون فيها قول المسيح الذي قال لحوارييه وأتباعه إني ذاهب إلى أبي وأبيكم، ومعنى أبي وأبيكم يريد به العموم لا نفسه وحده، واسمحوا لي أن أذكر كم بما جاء في كتاب العهد الجديد من إنجيلكم، وهو طبعاً كتابكم الذي تدرسونه وتؤمنون به- جاء في الإصحاح الخامس من إنجيل متى "طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يدعون".. وجاء في الإصحاح نفسه: "وأما أنت فمتى صمت فادهن رأسك واغسل وجهك، لكي لا تظهر للناس صائماً، بل لأبيك الذي في الخفاء، فأبوك الذي في الخفاء يجازيك"، وتتعاقب الشواهد إلى أن يقول: وجاء في (إنجيل يوحنا) الإصحاح العشرون، قال المسيح لمريم: "لا تسلميني لأني لم أصعد بعد إلى أبي، ولكن اذهبي إلى إخواني وقولي لهم: إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم".. وهكذا تتعاقب الشواهد المقتبسة من الإنجيل ليؤكد فيها الحكيمي أن لا فرق بين المسيح وغيره في هذه المسألة.. ثم يوجه حديثه إلى المسيحيين قائلاً: "إذن ما هو الفرق بين المسيح وغيره، وهو كما ترونه يقول: "أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم".. وهل تجدون في قوله هذا الواضح الصريح ما تحتكرونه له دون غيره، أو تنكرونه عليه؟(الحكيمي (2) 2000، ص19.

3- إثبات صدق رسالة النبي محمد :
حاول الشيخ الحكيمي أن يثبت للمسيحيين عن طريق الحوار، أن محمداً نبي الله ورسوله، فقال: "وقد دلت الدلائل الواضحة على نبوة محمد، ونطقت بذلك الآيات الصريحة في القرآن وغير القرآن من الكتب السماوية القديمة، وذكر اسمه في التوراة بـ(البارقليط) و(مسيا) وجاء اسمه صريحاً في إنجيل (برنابا) وأخذ الله له البيعة من جميع الأنبياء والمرسلين".. (الحكيمي(2)، 2000، ص25).
وفي كتابه الأسئلة والأجوبة بين المسيحية والإسلام، قام الشيخ الحكيمي بتقديم إيضاحات كاملة لعدد من الأسئلة الهامة التي وجهت إليه من قبل بعض القساوسة المسيحيين، وقد رد عليها بموضوعية، وحكمة متناهية، وهذه الأسئلة هي:
1. ماذا تعتقدون في المسيح؟
2. هل تعتقدون أن المسيح ابن الله المخلِّص للبشرية؟
3. هل تعتقدون أن المسيح هو روح القدس؟
4. هل أخبر القرآن بشيءٍ عن المسيح؟
5. هل تعتقدون المسيح سيعود إلى الأرض؟
6. لماذا لا تعتقدون بأن المسيح ابن الله؟
7. ما معنى الإسلام؟
8. هل محمد نبي أم ماذا هو؟
9. هل سيبعث نبي بعد محمد وكتاب آخر بعد القرآن؟
10. ألم تقل أنكم تؤمنون بنزول المسيح إلى الأرض في آخر الزمان، وهذا بعد محمد طبعاً، وتقول أنه لا نبي بعد محمد، أليس هذا تناقضاً؟
11. لم لا تتمسكون بدين المسيح وهو الذي سيرجع إلى الأرض بعد محمد؟
12. في أي أرض هبط آدم؟
13. هل آدم نبي أم غير نبي، وماذا هو إذن إذا لم يكن نبياً؟
14. كم عدد الأنبياء؟
15. ما هو الفرق بين الأنبياء والرسل؟
16. هل القرآن كلام الله أم كلام محمد؟ ومن كان يكتبه؟
17. كيف استطاع محمد أن يفهم القرآن؟
18. هل تعتقدون بالبعث؟
19. ما قولكم في الحساب والعقاب؟
20. لماذا كان الأنبياء كلهم في الشرق؟
21. لماذا كانت الديانة المسيحية في الغرب أكثر منها في الشرق؟
22. ما قولكم في الحروب الصليبية؟
23. ما هو اليوم المقدس عندكم في الأسبوع؟
24. ما حكمة الصيام وما فائدته؟
25. هل لكم رياضات تنفردون وتنقطعون بها إلى الله في الصوامع والكهوف والجبال؟
26. هل يتزوج رؤساء الدين عندكم أم لا يتزوجون؟
27. كيف تعقدون النكاح في دينكم؟
28. هل يقع الطلاق عندكم ولأي سبب يقع؟
29. كيف تسمون الأولاد عندكم؟
30. هل العقود وتسمية الأولاد يقعان في المساجد أم في غيرها؟
31. بماذا تعرفون أن محمداً خاتم الأنبياء وأنه لا نبي بعده؟
32. هل رئاسة الدين منحصرة في أسرة واحدة أم ماذا؟
33. من الرئيس الأعلى عندكم للدين، وأين يكون مستقره؟
34. ما هي طريقة القضاء في الإسلام لمن يريد أن يكون قاضياً؟
35. هل مسألة القضاء تكون بموافقة رئيس الدين للمجلس الأعلى أم ماذا؟
36. كم سنين تستلزم على مريد القضاء أن يقضيها في الدراسة حتى يكون قاضياً؟
37. ما هي العلوم التي يجب أن يعرفها القاضي؟
38. ما هي البلاد المقدسة للمسلمين؟
39. إلى كم فرق يفترق المسلمون؟
40. كم هي الكتب السماوية، وعلى من أنزلت، وكم يوجد منها إلى الآن؟
41. هل لهذه الكتب صلة بالقرآن؟
42. هل تصدقون بنزول المسيح إلى الأرض وفي أية جهة سيكون نزوله؟
43. ماذا ترون في عقول الغرب وما الفرق بينهم وبين رجال الشرق؟
ويشير الشيخ الحكيمي إلى أنه تلقى هذه الأسئلة من قبل رجال ونساء الدين المسيحي في بلدة بناث ويلز الجنوبية في بريطانيا، عشية الخميس 3 جمادي الأول 1367هـ 3مارس 1949م، في اجتماع واحد، وكانت توجه إليه أسئلة من هذا النوع، إلا أنها كانت متقطعة، وفي عدة اجتماعات مختلفة، وقد نشر ذكر هذا الاجتماع في الجريدة الإنجليزية التابعة لكنيسة البروتستانت واسمها (بنات تيمس).. (الحكيمي(2)، 2000، ص112).
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الأسئلة لا تزال مهمة بالنسبة لأي حوار إسلامي مسيحي، ولئن كان الشيخ الحكيمي قد أعطى إجابات شافية لكل سؤال من هذه الأسئلة، يمكن أن تكون مدماكاً يبنى عليه في الوقت الراهن ما يسمى بحوار الحضارات، ويمكن أن يصير كل سؤال منها محوراً أساسياً من محاور الحوار القائم بين الشرق والغرب، على أن تتولى مناقشتها مؤسسات علمية، حتى لا يقتصر ذلك على الأفراد.
ولا شك أن هذه الأسئلة تكتسب أهميتها من كونها تعكس صورة ما ينبغي أن يعرفه الغرب عن الإسلام، والتي يجب على الدعاة والمؤسسات العلمية في العالم الإسلامي أن يتخذوا منها مدخلاً للحوار مع المفكرين والمثقفين الغربيين، حتى يفهموا الإسلام على حقيقته، وتزول عن أذهانهم الصورة المشوهة عن الإسلام، وتنمحي من عقلياتهم التصورات الخاطئة التي جعلتهم يفترون على الإسلام، ويتهمونه بالإرهاب، وهو منها براء، إذ لو كان هناك أدنى شبهة بصلة الإسلام بالإرهاب لكان علماء الدين المسيحي الذين حاوروا الشيخ الحكيمي قد سألوه عن ذلك ضمن الأسئلة الكثيرة التي وجهوها له، خاصة وأن العالم كله كان وقتها قد عانى كثيراً من إرهاب الدول العظمى التي أشعلت نيران الحرب العالمية الثانية، وشهد بأم عينيه ما سببته أسلحة الدمار الشامل من خراب في (هيروشيما) و(نجزاكي).. أما كان يجدر بهم أن يسألوا شيخنا الجليل هذا السؤال: ما موقف الإسلام من الإرهاب؟ فلو سألوه لوجدوا إجابة كافية تدينهم وتبرئ الإسلام من هذه التهمة الزائفة.


صحيفة 26سبتمبر
 
إعداد: د. بدر سعيد علي الأغبري#
مقدمة لابد منها:مُضطر أن أقول في هذه المقدمة إنني أقدم ورقة متواضعة عن الشيخ عبدالله بن علي الحكيمي وآمل أن تكون باعثاً قوياً لغيري من الباحثين والمهتمين الذين لديهم القدرة على الدراسة المتكاملة والبحث المستفيض أن يقدم للمكتبة اليمنية والعربية دراسة متكاملة عن حياة الشخصية اليمنية ا لداعية الكبير والمصلح الاجتماعي الشيخ العلامة عبدالله علي الحكيمي ودوره التربوي، حيث أن كثيراً من الأمم والمجتمعات الغربية تهتم بعلمائها وتخلد ذكراهم وتتحدث في كل محفل علمي عن روادها وعظمائها وتوضح مآثرهم مثل الشاعر شكسبير الانجليزي وجون ديوي الامريكي وهاربرت سبنسر الألماني ورامبو الفرنسي... الخ، بينما الأمة العربية والإسلامية لا تولي هذا الجانب أي تقدير وأي اهتمام، فكثير من علمائها ومصلحيها مغمورون لا يعرف عنهم هذا الجيل ولا الجيل الجديد أي شيء ولم يكتب عنهم ولم يكشف الستار عن حياتهم وأعمالهم ومآثرهم، وقد أحسنت اللجنة المنظمة صنعاً في عقد هذه الندوة التي خصصت في ذكرى الخمسين لوفاة الحكيمي في تناول شخصية يمنية وعلم من أعملامها كان لها أثرها الفكري والديني والاجتماعي في اليمن وفي بلاد المهجر هو الشيخ عبدالله بن علي الحكيمي.
ويمكن القول أن الشيخ الحكيمي لم يلق حتى الآن ما يستحق من الدراسة والبحث فنحن الى يومنا هذا لم نجمع مؤلفاته لنعيد طبع ما نشر ونطبع المخطوط منها وهو كثير من خلال هذه الندوة أهيب بمراكز البحوث اليمنية والجامعات اليمنية وأجهزة الاعلام القيام بجمع تراث الحكيمي وإسهاماته وما كُتب عنه وإصداره بكتاب خاص وجعله مقرراً علمياً على طلاب الجامعات عرفاناً برد الجميل لما لقيه من معاناة وغربة في المهجر وفي نضاله ضد الإمامة والاستعمار ولإثراء الحوار والنقاش في هذه الندوة تحاول الورقة طرح الاسئلة التي يتطلب من المشاركين والحاضرين في هذه الندوة مناقشتها وإغناؤها بالأفكار والآراء السديدة التي تضيء جانباً من جوانب حياة هذا الشيخ في الكشف والتعرف على منهجه والمدرسة التي كان يمثلها في أثناء حياته.. والأسئلة هي:
1- ما المؤثرات والأحداث التي ساعدت على تكوين وتشكيل فكر المصلح الاجتماعي والداعية الحكيمي؟
2- ما المعالم والخصائص التي تميز بها فكر الحكيمي التربوي عما سواه من المفكرين والمصلحين من خلال نظرته الى التربية والتعليم؟
3- ما أهم الجهود التربوية التي قام بها الشيخ الحكيمي؟
4- الى أي مدى استجاب فكر الحكيمي الديني والسياسي والتربوي والاجتماعي لمتطلبات العصر الذي عاش فيه؟
5- ما جوانب القوة أو الضعف في فكر المصلح الاجتماعي للشيخ الحكيمي؟

ثانياً: المنهج المستخدم في هذه الورقة:
تتميز هذه الورقة بكونها اعتمدت على المنهج التاريخي في الرصد والعرض والتحليل بصورة مقتضبة دون التوسع او المناقشة في كل جانب من جوانب فكره لضيق الوقت في إعداد هذه الورقة، معتمداً في ذلك على بعض المصادر التي تم الحصول عليها وهي:
1- دين الله واحد.
2- دعوة الأحرار.
3- الأسئلة والأجوبة بين المسيحية والإسلام.
4- الشيخ الحكيمي ثائر ومفكر.
5- بعض الكتابات التي تم جمعها عن حياة الحكيمي ومنها الموسوعة اليمنية، مؤسسة العفيف
الثقافية، الطبعة الثانية 2003م.

ثالثاً: نبذة عن حياة الشيخ الحكيمي:تحتم المعرفة العلمية لأي جانب من جوانب الفكر عند أي مُرب أو عالم على الباحث أو الدارس معرفة وتشخيص المسيرة الحياتية له مبتدئاً التعريف به وشهرته وتاريخ ومكان ميلاده وتعليمه، حيث يعتبر هذا في حد ذاته قيمة فكرية تربوية لا يمكن إغفالها حتى تكون الأجيال القادمة على وعي واطلاع بهذه الشخصية الفذة هو عبدالله علي سعد أحمد الأشعري الحكيمي من مواليد 1900م وينحدر من جماعة كهلان، وهو شيخ الطريقة العلوية للصوفية، ولد في قرية حليس من عزلة الأحكوم (قضاء الحجرية - محافظة تعز) تلقى علومه الأولية في قريته ثم انتقل في صغره الى عدن وعاش مع والده وواصل تعليمه في الحلقات العلمية التي كانت تقام في مساجد عدن، وحين بلغ الثامنة عشرة من عمره التحق عام 1918م بالجيش العربي الذي أنشأته السلطات الانجليزية آنذاك باسم الكتيبة اليمنية الأولى وترقى الى رتبة ضابط ثم ترك الخدمة في الجيش وقرر الهجرة عام 1929م، فعمل في إحدى السفن الفرنسية التي كانت تجوب موانئ أوروبا وشمال افريقيا.. ومكنته حياة الهجرة والانتقال في موانئ العالم الجديد من الاطلاع على حياة العصر وحضارة القرن العشرين والالتقاء بالمهاجرين اليمنيين والتعرف على عدد من المثقفين والمهاجرين من أبناء المغرب العربي، وكان لذلك أثره في حياة الشاب عبدالله الحكيمي.
وفي عام 1929م ترك العمل في البواخر وقرر الالتحاق بالمدرسة الصوفية العلوية الشاذلية في مدينة مستغانم بالجزائر، وكان قد علم بالشيخ أحمد مصطفى العلوي -شيخ الطريقة الصوفية العلوية- الذي كان من أشهر علماء الصوفية له أتباع ومريدون في صفوف المهاجرين في عدد من الدول الأوروبية وفي شمال افريقيا ومكث يدرس على يد شيخه تعاليم الطريقة الصوفية العلوية وأصول الفقه والشريعة وعلوم الحديث والتفسير واللغة.. ولم يكتف بذلك، فقد أتيحت له خلال تلك الفترة فرصة الاطلاع على أعمال رواد حركة التنوير والاصلاح في المغرب العربي.. فأظهر نبوغاً وتفوقاً جعل شيخه يختاره للقيام بمهمة الدعوة الإسلامية في صفوف الجاليات العربية والإسلامية في اوروبا بعد أن منحه مرتبة «العارف بالله الصوفي وحاز على إذنه التام الكامل العام». وغادر الحكيمي الجزائر بعد وفاة شيخه في منتصف عام 1934م، ليبدأ مرحلة الدعوة الإسلامية في اوروبا، وقد تبلورت في ذهنه معالم الرؤية ووضحت مسالك الطريق أمامه فاتجه أولاً الى فرنسا ونزل في باريس ثم انتقل الى مرسيليا، والتقتى هناك بأعضاء الجالية العربية والإسلامية وبالمهاجرين اليمنيين وفي مقدمتهم «الحاج هائل سعيد أنعم» الذي كان واحداً من أتباع الطريقة الصوفية في المدينة، ثم أنتقل في اواخر عام 1934م الى هولندا وزار بلجيا واستقر عام 1936م، في مدينة كارديف ببريطانيا، واستطاع خلال هذه الفترة أن يكتسب مكانة كبيرة وشهرة واسعة في صفوف الجاليات العربية والإسلامية في اوروبا، وأن يعمل على تنظيم وتوحيد صفوف أبنائها، واقامة الجمعيات والمراكز الإسلامية من أجل رفع مستواهم الثقافي والاجتماعي.

رابعاً: وفاة الحكيمي:
في أواخر حياته، غادر بلاد المهجر (بريطانيا) ليعيش بقية حياته في عدن عام 1953م وأثارت عودته قلق المستعمر في عدن والإمامة في الشمال فلفقت له تهمة إدخال سلاح الى المستعمرة عدن وقدم الى المحاكمة وصدر حكم بسجنه سنة مع الاشغال الشاقة. وبعد قضاء ثلاثة أشهر في السجن صدر حكم ببراءته وحينها تولى رئاسة الاتحاد اليمني، إلاّ أن القدر لاحقه فتوفي في 4 اغسطس 1954م متأثراً بسم دس له وهو في السجن.

خامساً: مؤلفاته ومكانته العلمية:للشيخ الحكيمي بعض المؤلفات منها:-الأسئلة والأجوبة بين المسيحية والإسلام ودين الله واحد ودعوة الأحرار. ولمكانته العلمية وحياته الاجتماعية والنضالية تناول أحد الباحثين فكره الإسلامي وجهوده الاصلاحية (1900 - 1954م) في رسالة علمية للباحث (فؤاد عبده الحاج سيف البعداني، رسالة دكتوراه، جامعة بغداد، 2003م) الى جانب إصداره صحيفة «السلام» التي لعبت دوراً تنويرياً وتثقيفياً في المهجر، وعلى إثر ذلك عقدت ندوة علمية في ديسمبر 1998م حول الحكيمي ودوره النضالي وصحيفة «السلام» ودورها التنويري.
سادساً: الجهود التربوية:
كان أهم أعمال الشيخ الحكيمي ما يلي:-1- أقام مسجداً ومدرسة لتعليم الدين واللغة العربية لأبناء المسلمين الجدد في بلاد المهجر.
2- أقام أربعة منازل جعلها وقفاً للمسجد والمدرسة.
3- أوفد مجموعة من الطلاب اليمنيين للدراسة في الأزهر الشريف، ولذلك قيل «فإن الحكيمي سبق الأزهر» أي في كارديف بريطانيا.
4- بنى في الشيخ عثمان (عدن) مدرسة ثم أسس مدرسة أخرى في منطقة الاحكوم الحجرية.

سابعاً: الأفكار والآراء التربوية:سعى الشيخ الحكيمي الى اصدار كتب إسلامية توضح للأجيال الجديدة من المسلمين في بلاد المهجر (بريطانيا) دقائق الدين الإسلامي والى اقامة مسجد ومدرسة للمسلمين وأحاطهما بخمسة منازل خصص إيرادها للإنفاق على المسجد والمدرسة، كما عمل على تأسيس زاوية ومدرسة في مدينة الشيخ عثمان عام 1940م. وكان الشيخ الحكيمي يسعى دائماً الى التغيير والى التطور وكان يرى أن الشعب اليمني لا يمكنه التحديث والتقدم إلاّ عن «طريق العلم وعن طريق العقول النيرة والمفكرة التي ستكون مفتاح الخلاص على يدها»، وأثناء عودته الى مسقط رأسه الأحكوم وبعد غياب ما يقرب من عشرين عاماً هاله ما وجد أبناء بلده يعيشون في ظلام دامس وجهل وفقر وتخلف، فقرر في الحال بناء مسجد كبير ومدرسة تتسع لأكثر من مائتي طالب لأبناء الاحكوم والمناطق المجاورة وخصص لها أربعة أساتذة وتولى الانفاق عليهم وعلى الطلبة الذين توافدوا للدراسة من مناطق بعيدة»، وكان يرى الشيخ الحكيمي أثناء وجوده في اليمن بعد قرار العودة عام 1940م ضرورة أن يضع شيئاً لوطنه يسهم في تغيير واقعه المرير «اذا كان ممن يرون أن انتشار العلم بين أهالي البلاد وأبنائها هو بداية الخطوات لتقدم البلاد ورفع شأنها».
والحقيقة أن الجانب التربوي كان الشغل الشاغل ومن اهتمام الشيخ الحكيمي الذي «كان يؤمن بالعلم وبروح التغيير لأن العلم في نظره هو النور الذي يبدد ظلمات الجهل والجهالة والعلم تستضيء به القلوب والعقول». وكانت الزاوية ومسجد «نور الإسلام» اللذان شيدهما الحكيمي في كارديف كانا يؤديان دوراً كبيراً في تعليم وتثقيف وترشيد النساء المسلمات وأبناء المسلمين باللغتين العربية والانجليزية الى جانب العلوم التي يتلقونها في المدارس هناك، وكان الحكيمي يطالب بإلحاح علماء الأزهر والحكومة المصرية قبل وبعد قيام الثورة المصرية ويطالب بقية الدول والمؤسسات العربية ويذكرهم بواجبهم الديني والقومي نحو هؤلاء الاطفال ونساء العرب والمسلمين لتنشئتهم وتربيتهم تربية إسلامية.. الى جانب ذلك حدد الشيخ الحكيمي سياسة سير صحيفة «السلام» في أحد أهدافها الستة:
«الدعوة الى نشر الثقافة العامة حتى لا ينالها غني لغناه ويحرم منها فقير لفقره ندعو الى الثقافة العامة بأوسع معاني الكلمة لأنها كانت ومازالت عُدة المرء في سعيه والسلاح الوحيد الذي تتفاضل به الشعوب، من يمتلك الثقافة والعلم يسعد ويسبق ويسر ومن تخطئه الثقافة والعلم يشقى ويتخلف ويستبعد».
وفي مجال تعليم المرأة: يرى الشيخ الحكيمي من خلال ما جاء في صحيفة «السلام» والمدون في كتاب «دعوة الأحرار» ص254 «عليك حقك في التعليم حق مقدس فتمسكي به ولا تساومي فيه». ويستطرد القول في تعليم الفتاة العربية «قلت إن التعليم حق لك مقدس ولكن فكري طويلاً وعميقاً في نوع التعليم الذي يقدم اليك او يراد أن يفرض عليك»، «إن تعلمك لا يزال الى اليوم تعليماً نظرياً يهتم بالقشور دون اللباب والعرض دون الجوهر تعليماً لا يهيئك للاضطلاع بوظيفتك في المجتمع كفتاة، فزوجة، فربة البيت، فأم، فمواطنة صالحة، أنت تعيشين في عصر يزخر بالثقافات والمعرفة ويموج بالمشاكل أشتات منوعة، وكما يعترف هذا العصر للمرأة بحقوقها يلقي على عاتقها أثقالاً من الواجبات والمسؤوليات.. أنت يا سيدتي روح المجتمع العربي فلابد أن تكون هذه الروح أقوى وأصلب من الفولاذ، أنت النصف الذي يفتقده ذلك المجتمع العربي وبدونك سيظل نصف مجتمع، نصف منتج، نصف متقدم» («دعوة الأحرار»، ص255) ولهذا فالأسرة المتعلمة في نظر الشيخ الحكيمي هي المدرسة الأولى التي تتعهد الطفل بالتربية وأنها الأساس في تكوين شخصيته بما تتضمنه من اتجاهات وعادات ومفاهيم وأساليب سلوكية
الوسائط التربوية عند الشيخ الحكيمي:
إن التربية ليست قاصرة على البيت والمدرسة، بل أن ما يتم خارجها قد لا يقل عنهما أهمية، فالوقت الذي يقضيه الفرد خارج البيت والمدرسة متفاعلاً مع غيره من الأفراد قد يترك أثراً كبيراً في نفسه، كما أن العديد من المؤسسات في المجتمع تؤثر في تربية الفرد وعلى اتجاهاته وتتمثل الوسائط التربوية عند الشيخ الحكيمي في التالي:
1- المجسد 2- الأندية والجمعيات 3- الصحافة.
1- المسجد:
سعى الشيخ الحكيمي، كما سبق القول، الى بناء المساجد والاهتمام بها في داخل اليمن وخارجه، ومن خلالها أدى رسالته التربوية في تزويد المسلمين في المهجر بالمعارف الدينية والمبادئ الروحية والقيم الخلقية وبث الفضيلة ونشر الثقافة الإسلامية. وفي المسجد يتجلى العدل والمساواة بين الغني والفقير والكبير والصغير لا تمييز ولا تفريق، فضلاً عن الاحتفالات الدينية التي كانت تقام في المناسبات المختلفة، فالكل عباد الله ودين الله واحد اجتمعوا ليذكروه ويخشعوا له في بيت من بيوته (انظر كتاب «دين الله واحد» للشيخ الحكيمي، الطبعة الأولى 1952م والطبعة الثانية 2000م).

2- الأندية والجمعيات:
سعى الشيخ الحكيمي الى إنشاء بعض الأندية والجمعيات التي تعود على الفرد المسلم بالنفع حيث يجد فيها فرصة لتنمية مداركه ومواهبه وإكساب مهارات وقيم خلقية حسنة، ومن ذلك عمل على تأسيس الجمعية الإسلامية في هولندا (1934م) والجمعية الإسلامية العلوية في بريطانيا (1936) ومركز نور الإسلام عام 1937م في كارديف الى جانب ترؤسه الاتحاد اليمني بعدن. وقد ساهمت تلك الجمعيات بدور تثقيفي وتعليمي من خلال الأهداف التي رسمت لها ومنها:-
1- تعليم القراءة لأبناء المسلمين وتدريس العلوم الإسلامية واللغة العربية.
2- إنشاء مكتبة عامة باللغة العربية وتزويدها بمختلف المطبوعات والمصادر الإسلامية.
3- تقوية الروابط الاجتماعية والثقافية بين المسلمين وغير المسلمين.
4- دعم جسور الصداقة والتواصل بين المسلمين في بريطانيا وخارجها وتبادل العلوم والآداب الإسلامية.

3- الصحافة:من الممكن أن تعتبر الصحافة مدرسة متنقلة، والدور الذي لعبته صحيفة «السلام» التي أصدرها الحكيمي عام 1948م هي خدمة الوطن في المهجر، حيث هدفت الى سلامة التوجيه وتحري الحقيقة وإصلاح ذات البين فيما تنشر أو تصور أو تنتقد أو توجه. ولا ينكر أي شخص كائن من كان أن ينكر ما لصحيفة «السلام» من تأثير كبير في توجيه أبناء المهجر بأهداف سياسة المستعمر في عدن وحكم الإمامة في الشمال، وقد حدد الشيخ الحكيمي سياسة سير صحيفة «السلام» في أحد أهدافها الستة «الدعوة الى نشر الثقافة العامة حتى لا ينالها غني لغناه ويحرمها فقير لفقره، ندعو الى الثقافة العامة بأوسع معاني الكلمة لأنها كانت وما زالت عدة المرء في سعيه والسلاح الوحيد الذي تتفاضل به الشعوب من يمتلك الثقافة يسعد ويسبق ويسر، ومن تخطئه الثقافة والعلم يشقى ويتخلف ويستعبد». وحينما تنتقد صحيفة «السلام» فإنما يكون من أجل التوجيه والاصلاح لا بقصد الهدم والتضليل ورغم من أن الصحيفة لم تنتشر بين جميع أبناء الوطن، حيث الأمية كانت ضاربة أطنابها في أوساط المجتمع اليمني، إلاّ ان أثرها محسوس وملموس مما أثار غضب الأئمة وسعوا الى مضايقة الشيخ الحكيمي من خلال تكليف حسن ابراهيم ممثل اليمن في لندن الى إيجاد المشاكل ضده والتآمر عليه.

ثامناً: الخلاصة:من خلال الوسائط التربوية والفكر التربوي تنوعت أساليب الشيخ الحكيمي التربوية، حيث لم يترك وسيلة ناجحة استطاع أن يوصل بها الوعي والهدى للناس إلاّ طبقها ويمكن حصر وسائله التربوية من خلال الاستنتاجات من بعض كتاباته ونشاطاته هي:
1- التربية والتعليم وإنشاء المدارس.
2- الخطب والدروس الدينية والمواعظ وإنشاء المساجد.
3- البعثات العلمية الى بلاد المهجر.
4- الكتابة وإصدار صحيفة «السلام».
5- تأسيس الأندية والجمعيات الثقافية والفكرية.
6- عقد الندوات والحلقات العلمية.
7- تشجيع المبادرات الخيرية.
8- ربط بلاد المهجر باليمن لغة وروحاً.
9- بث روح الأمل في الشعب اليمني ودعوته للتخلص من حكم الإمامة والاستعمار.
10- مهادنة الادارة الاستعمارية في عدن والنظام الملكي في الشمال وإنشاء العلاقات التهادنية معهم 
لغض النظر أو الطرف عن نشاطه الديني والسياسي.
11- إحياء قيم اليمنيين وماضيهم وتاريخهم وأمجادهم في نفوس الشعب اليمني الأمُي.
12- الدعوة الى الاجتهاد والتفتح الأصيل والتمسك بالقيم الفاضلة.
13- الابتعاد عن الصراعات الهامشية والطائفية.
14- بث روح الأمل في الشعب اليمني ودعوته للتخلص من غشاوة اليأس والقنوط التي غرسها النظام الإمامي في نفسية الشعب اليمني.
ومرة أخرى يمكن القول أن الشيخ الحكيمي لم يلق حتى الآن ما يستحق من الدراسة والبحث، فنحن الى يومنا هذا لم نجمع مؤلفاته لنعيد طبع ما نشر ونطبع المخطوط منها وهو كثير وهذا أضعف الإيمان، ودراسة انتاج الحكيمي ودوره الإصلاحي في كل المجالات يحتاج الى بذل جهد ليس باليسير اذا ما أردنا لهذه الندوة أن تكون منهجية تحليلية لا تكتفي بالوصف والاستطراد والتجميع، فدراسة انتاج الحكيمي تعني عملياً دراسة نشوء وتطور الحركة الوطنية والمناخ الثقافي في يمن الأئمة والانجليز والمؤثرات العربية في كل هذه الظروف..هذا ما تيسرت معرفته وإعداده في هذه الورقة المتواضعة في ظل غياب كثير من المعلومات عن الشيخ الحكيمي.
< بعض المصادر والمراجع التي استقت الورقة منها المعلومات:
1- الشيخ عبدالله علي الحكيمي، «دعوة الاحرار»، الطبعة الثانية، صنعاء 2000م، مؤسسة الثورة للصحافة والنشر.
2- الشيخ عبدالله علي الحكيمي، «دين الله واحد»، الطبعة الثانية، صنعاء 2000م مؤسسة الثورة للصحافة والنشر.
3- الشيخ عبدالله علي الحكيمي، «الأسئلة والأجوبة بين المسيحية والإسلام»، الطبعة الثانية، صنعاء 2000م، مؤسسة الثورة للصحافة والنشر.
4- الشيخ الحكيمي ثائر ومفكر ندوة اليوبيل الذهبي لصحيفة «السلام»، مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء، ديسمبر 1998م.
5- الموسوعة اليمنية، مؤسسة العفيف الثقافية، صنعاء، الطبعة الثانية 2003م.
6- عبدالملك الشيباني، كتاب «مسيرة الاصلاح»، دار السلام، تعز، 1993م.
7- عبدالله فارع العزعزي، «اليمن من الإمامة الى الجمهورية»، دراسة في الخلفية التاريخية لثورة 26سبتمبر 1962م، صنعاء، المنتدى الجامعي للنشر والتوزيع، 2001م.
8- أعداد متفرقة من مجلات «الحكمة» و«الكلمة» و«اليمن الجديد».
9- قائد محمد طربوش، «تاريخ عشائر محافظة تعز»، 2000م.
10- بدر سعيد الأغبري، «التربية والتعليم في اليمن»، صنعاء، دار الشوكاني للطباعة، الطبعة الثالثة، 2004م.
11- فؤاد عبده الحاج البعداني، «الشيخ عبدالله بن علي الحكيمي»، (1900 - 1954م)، فكره الإسلامي وجهوده الاصلاحية، رسالة دكتوراه غير منشورة، جامعة بغداد، العراق، 2003م.

* ورقة مقدمة الى ندوة الشيخ الحكيمي بمناسبة مرور خمسين عاماً على وفاته4 أغسطس 2004م
كلية التربية - جامعة صنعاء

قرت اراءة في صفحة من صفحات تاريخ الثورة اليمنية المجيدة
الشيخ الحكيمي وقصته مع الحرية
منطقة الميدان - زكو - كريتر أوائل القرن الماضي

محمد زكريا

علم من أعلام الحركة الوطنية ظهر في ظروف وأوضاع سياسية صعبة واجتماعية معقدة في اليمن في عهد الحكم الإمامي، سواء كان ذلك قبل أن تشتعل ثورة 48م أو بعد أنّ انطفأت جذوتها لأسباب مختلفة لسنا هنا في صدد الحديث عنها . فقد ظن النظام الإمامي أنّ رياح الثورة ، قد سكنت ، وأنّ قادة الأحرار ، قد كسرت شوكتهم ، وأنّ الحركة الوطنية برمتها ، قد دفنت إلى الأبد بعد أنّ علقت الكثير من رءوس على المشانق ، وزج البعض منهم في غياهب السجون البشعة والآخرون نكل بهم وشردهم، ولكن هناك من قيض لصوت الحق والحرية.. رجال ضحوا بكل غالٍ ونفيس حيث فضحوا أساليب وطرق الحكم الإمامي الاستبدادي الذي أذاق اليمنيين العذاب الغليظ. ومن هؤلاء الذين حملوا مشعل نور الحرية والحركة الوطنية في تلك الأوضاع السياسية السوداوية والمخيفة التي ألقت بظلالها القاتمة على اليمن واليمنيين هو الشيخ الجليل عبد الله علي الحكيمي الذي سطر بحروف من نور قصة الحرية الذي وهب نفسه لها ، ومات من أجلها . والحقيقة كلما أوغلنا في سيرة الشيخ عبد الله الحكيمي الثائر والمفكر ، ازددنا إيمانًا ورسوخًا بقوة شخصيته , وشجاعته الهادئة ، وجرأته الواضحة ، وأنه لا يخشى في الله لومة لائم ، وقدرته على احتمال المكاره التي أحاطت به من كل مكان ، وكلما أحاطت به عواصف ، ونتوءات الظلم من كل مكان و علت أمواجها العاتية في وجهه ازداد قوة وصلابة وعزيمة لا تلين في مواجهتها والوقوف أمامها .

الحرية والوحدة

الحكيمي مع الرئيس المصري الأسبق/ محمد نجيب في سبتمبر 1952 أثناء عودته إلى عدن

لم يتخل الشيخ عبد الله الحكيمي عن مبادئه قيد أنملة المتمثلة بالحرية والعدالة والمساواة حتى آخر رمق في حياته ، وكان له نظرة عميقة ورؤية واسعة بأنّ نظام الإمامة في اليمن وأذنابه يسعون سعيا حثيثا إشعال فتنة التفرقة بين اليمنيين حتى لا يشكلون قوة واحدة ضد أساليبه السياسية القمعية والدامية ، فقد كان يرى الشيخ الحكيمي أنّ وحدة اليمنيين هى القوة الصلبة التي ستتحطم عليها الإمامة والتخلف والجهل . وهذا ما أكد عليه الباحث البريطاني فرد هوليدي قائلاً : “ وركز (أي الحكيمي) أيضا على الوحدة مذكرا بأثر الخلافات القبلية والمناطقية بين اليمنيين مؤكدا : لا زيود ، ولا شوافع ، ولا عدنانيين ، ولا قحطانيين ، لا صنعانيين ، ولا عدنيين، لا جبليين ولا تهاميين ، لا لحجيين ، ولا أبينيين ، ولا بيحانيين ، ولا حضرموميين“. والحقيقة أنّ الشغل الشاغل والهم الأول الذي كان يحمله الشيخ الحكيمي على كتفيه هو وحدة صف اليمنيين سواء في داخل اليمن أو في المهجر . ويقول الباحث البريطاني هوليدي بأنّ الشيخ عبد الله علي الحكيمي كان دائما وأبدا يصرح بأنّ على اليمنيين أنّ يكونوا صفا واحدا لأنّ الإمامة تعمل على تفتيت الأمة وتبذر بذور التفرقة لإخماد صوت الحق والعدل والمساواة في اليمن وبذلك تتمكن من إخماد جذوة الحركة الوطنية ، وينقل الباحث البريطاني عن الشيخ الحكيمي رسالة بعثها إلى المهاجرين اليمنيين في كارديف ببريطانيا يؤكد فيها ضرورة وحدتهم وعدم تفرقهم ، فيقول : “ حافظوا على وحدتكم ولا تنفصلوا عن بعضكم البعض والإ فأن شهرتكم ومنجزاتكم ستتلاشى وتضيع “. وهذا إنّ دل على فإنه يدل بأنّ الحكيمي وضع نصب عينيه وهو يقارع الإمام ، أنّ تكون الوحدة قوية بين اليمنيين على تباين مناطقهم ، ومشاربهم الاجتماعية ، واختلاف حظوظهم الثقافية .

من صناع ثورة 48م

والحقيقة أنّ الشيخ عبد الله الحكيمي تبوأ مكانة عاليا على خريطة الحركة الوطنية ، وكان له الدور الرائد والرائع في النضال ضد نظام الحكم الإمامي سواء كان ذلك قبل قيام الثورة الدستورية سنة 48م أو بعد أنّ انطفأت جذوتها ، فلم يكن من المساهمين في الثورة الدستورية فحسب ولكنه كان من نسيجها هو ورفاقه أمثال زيد الموشكي ، أحمد المطاع ، الأستاذ النعمان, والشاعر والأديب الشهيد محمد محمود الزبيري وغيرهم من رجالات الثورة وبعبارة أخرى كان الحكيمي من صناع أحداث الحركة الوطنية وجزء لا يتجزأ من منها وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم ، بقوله : “ . . . أنّ الأستاذ المرحوم عبد الله الحكيمي لم يكن مجرد مشارك أو على علاقة بحركة المعارضة اليمنية قبل ثورة 1948م أو بعدها بل كان في الواقع جزءًا منها ، بل وعنصرًا فاعلا من أهم عناصرها “.

أهم صفاته

و الحقيقة تميز الشيخ عبد الله الحكيمي بالحركة والنشاط الدائمين في فضح أساليب نظام آل حميد الدين التعسفية والقمعية الذي كمم الأفواه ونشر الجهل والفقر بين اليمنيين من ناحية وعزل اليمن سياسيا عن محيطه العربي والدولي من ناحية أخرى . وأهم صفات المناضل الحكيمي أنه كان جريئًا وشجاعًا ـــ كما قلنا سابقا ـــ فإنه كان يوقع مقالاته النارية ضد نظام الحكم الإمامي باسمه الصريح في “ صوت اليمن “ . “ أنه ( أي الحكمي ) كان يراسل صحيفة المعارضة التي صدرت في عدن باسم صوت اليمن . وتنشر مقالاته بتوقيعه صراحة ، وذلك بعد خروجه من كاردف ، على عكس كثير من المقالات والأخبار التي كانت تنشر بها ، سواء لأناس كانوا داخل اليمن أو كانوا في خارجها ، فكانوا ينشرون بدون توقيع ، أو بأسماء غير أسمائهم “ . وهذا ما أكده أيضا ً فريد هوليدي بأنّ الحكيمي ، كان له الدور الكبير في ثورة 48 م وما بعد فشلها . وفي هذا الصدد ، يقول : “ مهما يكن . . فإن هم (( الحكيمي )) في الفترة الأخيرة ، كان سياسيًا ، وكانت قضيته الرئيسية هى مناصرة ثورة 1948 م في شمال اليمن ، وكان من البين أنه ارتبط بمعارضة اليمنيين الأحرار أثناء عودته إلى اليمن ، وما إنّ ظهرت صحيفة (( السلام )) حتى جعل يستغلها في إعادة نشر الانتقادات ضد السلطة في الشمال “ . وينشر الباحث البريطاني رسالة من الحكيمي إلى الإمام ينتقد فيها نقدا لاذعا أساليب حكمه تجاه الرعية ، قائلا ً : “ ليس من العدل يا صاحب الجلالة أنّ الأسرة الملكية تعيش حياة سعيدة هانئة بينما آلاف المواطنين يموتون من الجوع ألا تدري أنّ موظفيك لا يتصرفون بأي وازع من المسؤولية بل كتجار يبيعون ويشترون المواطنين ؟ . أنّ اليمن بلد زراعي ملئ بالخيرات وباستطاعته أنّ يعيل حوالي عشرة ملايين إنسان لو توفرت له إدارة مسؤولة ( مسئولة ) تدير البلد ومواطنيه بطريقة عصرية لكن اليمنيين البائسين يعانون من شدة الجوع في وطنهم ويضطرون لمغادرة اليمن إلى البلدان الأجنبية بحثاً عن لقمة العيش “ .

بذور الثورة

والحقيقة أنّ الشيخ الحكيمي لم يكن ثائرًا فحسب على الأوضاع السيئة في اليمن جراء نظام الحكم الإمامي البشع بل كان يحمل في ثناياه فكرًا مضيئا ً كان بمثابة نبراس يضيء للآخرين طريق الحرية والإنعتاق من قيود الجهل والتخلف ، ولذلك عمد إلى إصدار صحيفة “ السلام )) في كاردف ببريطانيا في السادس من ديسمبر سنة 1948م . والجدير بالذكر أنّ ظهور تلك الصحيفة ، كان بعد فشل ثورة 48م مباشرة أي لم يمض على ذهاب ريحها عشرة أشهر , وكانت الحركة الوطنية التي خيم عليها الإحباط في أمس الحاجة إلى بصيص من نور يعيد لها الأمل في مقاومة نظام الحكم الإمامي المستبد الذي ظن أنه قضى على الحركة الوطنية قضاءً مبرمًا وصفى الأحرار الوطنيين تصفية كاملة . وكيفما كان الأمر ، فقد كان الشيخ عبد الله علي الحكيمي متعطشا إلى معرفة التيارات الفكرية التي تدعو إلى الحرية ، وبسبب ذلك انطلق إلى آفاق واسعة وعريضة ينهل من التيارات الثقافية التي كانت سائدة آنذاك في الوطن العربي ، وجراء تجوال الشيخ الحكيمي في العديد من الموانئ والبلدان العربية والأوربية أدرك إدراكًا واضحًا الفرق الواسع والعريض بين ما يراه في بلاده اليمن التي تعيش في دياجير الظلام والبلدان الأخرى التي تأخذ بزمام التقدم والازدهار . وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم ، قائلاً : “ وقد أتاح له ( الحكيمي ) هذا فرصة التجوال في كثير من الموانئ العربية والأجنبية مما فتح أمامه آفاقا واسعة في التفكير والتأمل والمقارنات بين ما يشاهده في تلك البلاد وبين ما في بلاده هو من تخلف وانغلاق . وكان هذا هو مجال تفتحه المبكر “ . ونستخلص من ذلك أنّ تجواله في عددٍ من البلدان العربية وغير العربية غرست في نفس الشيخ الحكيمي بذور الثورة والتمرد على الأوضاع السياسية والاجتماعية المتخلفة الذي تعيشها اليمن في ظل الإمامة أو بعبارة أخرى عمقت لديه روح التمرد على نظام الإمامة وحكمها البائس .

في الجزائر

وفي مدينة مستغانم بالجزائر ألقى الحكيمي عصا الترحال ، وهناك تشرب عقله وروحه علوم الصوفية والدين واللغة العربية وفروعها المتنوعة . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور سيد مصطفى سالم : “ وفي مستغانم بالجزائر ألتحق بالزاوية العلوية ، والتقى بأستاذه ومربية الشيخ أحمد بن مصطفى . . . وقد بقي في هذه الزاوية خمس سنوات ، وتلقى بها علوم التصوف ، واللغة العربية والفقه ، والتشريع و، والتاريخ ، والبيان. حقيقة أنّ الشيخ الحكيمي ، ألتحق بالزاوية الشاذلية العلوية ودرس على مربيه وشيخه أحمد ابن مصطفى العلوي علوم التصوف والدين ، واللغة العربية ـــ كما قلنا سابقا ً ــــ ، ولكن كان الشيخ الحكيمي يحمل في ثنايا روحه التمرد على نظام الحكم الإمامي في اليمن . ونتجرأ ونقول أنّ الحكيمي ، جمع بين الصوفية والسياسة في آن واحد أو بعبارة أخرى ، كانت الصوفية تمده بالعزيمة والقوة الكبيرين في خوض الحياة السياسية لمقارعة الظلم الجاثم على اليمن آنذاك . وكان الحكيمي لا يرى بأسًا أنّ يتعاطى الصوفي السياسة أو بعبارة أخرى أنّ يخوض غمارها . وقد أوضح ذلك في رسالة لأتباعه يبين لهم بأنه يجب ويتوجب الصوفية أنّ تكون نصيرة للحق من خلال مشاركتها في دفع الأذى والظلم عن الآخرين حيث ، يقول : “ إنّ من المسلم به والمقطوع فيه أنّ منهج الحق واحد ، ودعوات المصلحين لا تختلف عن بعضها وإنّ اختلفت الأزمنة والأمكنة . . وهى الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصرة المظلوم وتحرير العقائد والنفوس والعقول والرقاب من ظلم الظالمين وجور الجائرين . . . “ . وهذا دليل واضح وقاطع على مدى ما تحلى به الحكيمي من رؤية عميقة لمفهوم الصوفية الحقيقة وهى المشاركة الفعالة في المجتمع والعمل على رفع الضيم عنه ، والوقوف ضد الظلم والظالمين ، وعدم الابتعاد والعزلة عن الناس . وترك الظلم يجول ويصول دون رادع يردعه ويقف أمامه . أمّا العزلة والهروب من قضايا الناس ، فهذا ليس من الصوفية الحقيقية في شيء .

تكوينه الفكري

والحقيقة لقد أوضح لنا أبنه عبد الرحمن في كتابه عن سيرة والده الشيخ الحكيمي الأسباب التي جعلته ينضم إلى الطريقة الشاذلية العلوية الصوفية عن غيرها من الطوائف الصوفية في الجزائر أو بلاد المغرب العربي التي كانت منتشرة في طولها وعرضها بقوة هناك يومئذ أو ما هى الأسباب أو السبب المباشر الذي دفعه أنّ يكون من مريدي وأتباع الشيخ أحمد بن مصطفى العلوي الجزائري . وفي هذا الصدد ، يقول : “ ترك العمل ( أي الحكيمي ) في السفن الملاحية واختار الإقامة بالجزائر لمواصلة طلب العلم واعتبر الجزائر وطنا ًثانيًا له ، عاش في مدينة مستغانم ـــ وتتلمذ على يد الشيخ أحمد بن مصطفى العلوي الجزائري وهو من كبار أئمة الصوفية وعلمائها . . . وقد عرف هذا الشيخ بمقاومته للاحتلال الفرنسي . وكان يصدر صحيفة للإرشاد ومقاومة الاستعمار الفرنسي اسمها (( البلاغ )) ، وكان له أتباع وأنصار في بلدان كثيرة . . وكان هذا الشيخ من قادات ( قادة ) النهضة مثله مثل وزعماء الجزائر والمغرب العربي الذين قاوموا الاحتلال الفرنسي ـــ أمثال عبد القادر الجزائري ، عبد المجيد بن باديس ، عبد الكريم الخطابي ، عمر المختار ، وأضرابهم من زعماء المغرب العربي “ . ويعد الفترة الذي قضاها الثائر الشيخ عبد الله الحكيمي في كنف شيخه الكبير الصوفي أحمد مصطفى العلوي صاحب الطريقة الشاذلية العلوية في مستغانم بالجزائر فترة تكوين فكري ووطني بالنسبة له . وهذا ما أكده الأستاذ عبد الرحمن الحكيمي ، قائلا : “ كان لشيخه أثر كبير دينيًا ووطنيًا ــــ كما تأثر بثوار المغرب العربي مثل عبد القادر الجزائري ، بن باديس ، عبد الكريم الخطابي ، و عمر المختار ــــ بفكر جمال الدين الأفغاني ، وعبد الرحمن الكواكبي . والشيخ محمد عبده ، ورشيد رضاء وأضرابهم ــــ من زعماء النهضة الفكرية والإصلاحية في الوطن العربي “ . ويسترسل عبد الرحمن ، فيقول : “ وكان هذا البنيان الفكري والإصلاحي الأساس والخلفية لفكر الحكيمي ، الديني ، والوطني والإصلاحي الذي وصفه وكرسه لخدمة أبناء وطنه في المهجر وداخل الوطن” . ونستخلص من ذلك أننا أمام مفكر كبير حمل فكرًا مستنيرًا يدعو دائمًا وأبدًا إلى رفع إنسانية الإنسان وهو تبديد سحب الجهل الكثيفة على أمته من جهة وتعرية النظام الإمامي البشع في اليمن من جهة أخرى .

في كارديف

و يتساءل المرء من الأسباب التي دفعت بالثائر الشيخ الحكيمي أنّ يترك مستغانم بالجزائر بعد خمس سنوات ؟ . والتي كان ملازمًا فيها الحضرة الصوفية في ظل شيخه أحمد مصطفى العلوي والتوجه إلى كاردف في بريطانيا والمكوث بها ؟ . الصورة الظاهرة أمامها هو أنّ الغاية من التوجه إلى هناك هو تأسيس الجمعية الإسلامية الشاذلية العلوية والتي أسست في 22 يونيو 1936م لتعريف الجالية العربية بأمور الدين . ولكن روح الشيخ عبد الله الحكيمي الثائرة والمتمردة الوثابة على الظلم والظالمين هى التي دفعته دفعًا إلى تبصير المهاجرين اليمنيين بحقيقة الظلم الواقع على كاهل أهلهم في اليمن من الإمام الظالم . فقد أعتقد الثائر الحكيمي اعتقادًا جازمًا بأنه يستطيع أنّ يؤجج مشاعر المهاجرين اليمنيين ضد نظام حكم الإمامة والجرائم الذي ارتكبها بحق اليمن واليمنيين . بالرغم أنّ الكثير منهم كانوا من الريف أي من العامة الذين يرون أنّ الخروج عن طاعته هو الانسلاخ عن الملة ، فكانوا من المعارضين للشيخ الحكيمي . وفي هذا الصدد يقول فريد هوليدي : “ قوبل هذا الموقف المعارض للإمام كما يبدو بمعارضة كبيرة من داخل جالية (( كارديف )) . . . والظاهر أنّ عدة عوامل ، قد لعبت دورًا كبيرًا في ذلك ويأتي في مقدمتها أنّ كثيرًا من المهاجرين في جالية (( كارديف )) يتمسكون بولاء قوي للأفكار والتصورات التقليدية اليمنية والإسلامية معًا ، وكان من الواضح أنهم واقعون تحت تأثير الفكرة الإسلامية القائلة بأنّ الإمام زعيم ديني ودنيوي في وقت واحد وعليه فإنّ انتقاده في الأحوال العادية يعد خروجًا على الدين . . . “

إنجازاته الرائعة

وعلى أية حال ، على الرغم من الصعوبات الكأداء التي وقفت في طريق الشيخ الحكيمي في كارديف ، فإنه استطاع أنّ يرفع الغشاوة عن المهاجرين اليمنيين البسطاء الذين لا يحملون ثقافة عالية ـــ كما قلنا سابقا ـــ بالظلم البين والواقع على اليمن واليمنيين من الإمام وحاشيته. وفي هذا الصدد ، يقول فرد هوليدي “ كان إنجاز الحكيمي في تنظيم اليمنيين المهاجرين في بريطانيا إنجازاً متميزًا ويرجع ذلك أولا وقبل كل شيء إلى طبيعة المنطلق الذي تبنته جمعيته ( الجمعية الإسلامية العلوية ) وتناهت أصداؤه إلى اليمن نفسها خصوصًا أنّ جريدته ( أي جريدة السلام ) كانت صوتا ً من الأصوات القليلة التي علت ضد الإمام في سنوات الظلام ما بين 1948م ونمو المعارضة في عدن في منتصف الخمسينيات “ .

في عدن

وكيفما كان الأمر ، فإنّ الشيخ الحكيمي بعد أنّ ثبت أقدام الطريقة الصوفية العلوية في كاردف ببريطانيا ، وفضح أساليب نظام الإمامة في اليمن للمهاجرين في كاردف بصفة خاصة وبريطانيا بصفة عامة و نشر بينهم روح الثورة والتمرد وجد من الضرورة بمكان أنّ يعود إلى موطنه الذي غاب عنه فترة طويلة لإرساء فيه نور العلم والمعرفة لأنه أمضى سلاح في مقارعة الظلم والظالمين . وفي هذا الصدد ، يقول عبد الرحمن عبد الله الحكيمي : “ قام الحكيمي بعد وصوله إلى عدن عام 1940م بافتتاح مدرسة للإرشاد والتعليم في مقره بالشيخ عثمان . وكان الإقبال كبيرًا من طلاب العلم ورواد المعرفة . . وقد استقدم الحكيمي من الأزهر الشريف الشيخان عثمان عبد الله الأزهري ، وعلي ناصر العنسي “ .

في تعز

والحقيقة أنّ الشيخ الحكيمي ، في أثناء وجوده في عدن ، كان يمد بصره إلى قريته ويحن إلى مسقط رأسه المحرومة من نور العلم والمعرفة . وفكر وقرر الحكيمي الذهاب إلى مسقط رأسه في الأحكوم بقضاء الحجرية بتعز ، وإنشاء مدرسة لأبنائها . وفي هذا الصدد ، يقول عبد الرحمن الحكيمي: “ نتيجة المضايقات من سلطات عدن الاستعمارية التي فرضت حظرًا لمنع كل النشاطات أيًا كانت في إبان محنة بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية . . قرر الحكيمي مغادرة عدن إلى شمال الوطن مسقط رأسه (( الأحكوم )) . وأقام في بلدته مسجدًا ومدرسة على نفقته . وكان الإقبال على الدراسة كبيرًا من أبناء الأحكوم والمناطق المجاورة . . بل ومن بعض نواحي اليمن . . استمرت هذه الدراسة في أداء رسالتها قرابة ثلاثة أعوام “ . والحقيقة أنّ الإقبال الشديد على المدرسة أزعج ولي العهد ( احمد ) وأمير تعز آنذاك ، فعمل على مراقبة الشيخ الحكيمي وتضيق الخناق عليه ولكن في الأخير تمكن الحكيمي من الهروب من قبضة سيف الإسلام ( أحمد ) و العودة إلى عدن سنة 1943م مرة أخرى . وبمجرد عودته إلى عدن زاول نشاطه بهمة عالية في ميدان العلم كعادته . وفي هذا الصدد ، يقول عبد الرحمن الحكيمي : “ وعلى إثر وصوله إلى عدن أعاد نشاطه وسير الدراسة لطلاب العلم في منزله بالشيخ عثمان . . وقد تخرج الكثيرون من طلاب تلك المرحلة علمًا وفكرًا وأدبًا ، وثقافة. وأتت أكلها وعادت بثمار طيبة على طلابها والذي أسهم بعضهم في حقل التربية . وفي خدمة الوطن تحت رعاية وإشراف الحكيمي “ .

صحيفة “ السلام “ 

بعد فشل ثورة 48 م ظن الإمام أحمد وزبانيته أنهم قضوا على صوت المعارضة، وبعد عشرة أشهر من فشل الثورة . أصدر الثائر والمفكر الشيخ الحكيمي جريدة “ السلام “ لتكون صوتا ً للمعارضة مرة أخرى فتهز أركان السلطة الفاسدة في اليمن من خلال فضح أساليبها . ولسنا نبالغ إذا قلنا أنّ جريدة “ السلام “ أعادت الروح والأمل من جديد إلى جسد الحركة الوطنية . وهذا ما دفع الأستاذ الدكتور علوي عبد الله طاهر أنّ يصف “ السلام “ بأنها أعادت نبض الحياة للأحرار الوطنيين ، قائلا “ . . . أتت صحيفة ( السلام ) لعبد الله الحكيمي لتعيد للحركة الوطنية روحها ، وتبعث فيها الحياة من جديد “ . ويصف عبد الله طاهر بأنّ ظهور صحيفة “ السلام “ على سطح الحياة السياسية جاء في أوضاع وظروف سياسية قاتمة . فقد يئس الكثير والكثير جدًا من أبناء اليمن وعلى رأسهم الأحرار اليمنيون بأنه لم ولن تشرق الشمس مرة أخرى على اليمن بعد أجهز الإمام (( أحمد )) على الثورة والثوار . وفي هذا الصدد ، يقول “ . . . ظهرت ( صحيفة السلام ) في أحلك الظروف وأشدها قتامه بالنسبة للشعب اليمني ، إذ جاء صدورها في وقت كانت القلوب ، قد بلغت الحناجر من جراء النكبة التي أصيبت بها الحركة الوطنية . فقد كان الإمام أحمد يحصد الصفوة المختارة من أبناء الشعب اليمني من شباب متنورين ، وعلماء أفاضل ، وشيوخ قبائل شرفاء ولذلك دب الخوف والفزع في أنحاء اليمن بعد المجازر الرهيبة التي قام بها الإمام أحمد وبالذات بعد مطاردة رجال الانقلاب واعتقال أكثرهم وهروب الباقين “ . ولسنا نبالغ إذا قلنا أنّ الحركة الوطنية ، كانت بعد فشل ثورة 48 م تعيش في نفق مظلم وعندما ظهرت “ السلام “ في تلك الأوقات الحالكة والبشعة ، فقد أخرجتها من ذلك النفق المظلم إلى النور ، وأعلنت للملأ أنّ صوت المعارضة مازال موجودًا بالرغم من فشل الثورة ، وأنّ رايات الحرية سترفرف فوق ربوع اليمن عما قريب .

“ دورها في المهجر “

والحقيقة أنّ صحيفة “ السلام “ تميزت عند صدورها في السادس من ديسمبر سنة 1948 م بمقارعتها للإمام بصورة واضحة مباشرة . وكان لظهور أعداد “ السلام “ في عدن أثر إيجابي على نفوس اليمنيين الأحرار بصورة خاصة واليمنيين بصورة عامة. وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور علوي طاهر : “ في تلك الظروف العصيبة ظهرت صحيفة ( السلام ) في بريطانيا وحملتها الطائرة إلى عدن ، وفيها المقالات القوية الملتهبة المعترضة على ممارسات الإمام أحمد القمعية . . . واستقبل اليمنيون في داخل الوطن وخارجه صحيفة ( السلام ) بترحيب حار وتهافتوا على شرائها وقرأوها باهتمام ثم صاروا يراسلونها ويزودونها بالمقالات التي تشرح الأوضاع في بلادهم وبالرسائل التي يشكون فيها من الظلم والمعاناة ، ويصفون ما يلاقيه المواطن من جور وظلم وتسعف على أيدي الإمام أحمد ورجال حاشيته ، وأتباعه “ . وفي نفس السياق تشير الباحثة الأستاذ تقية حسين قاسم الصايدي بأنّ صحيفة “ السلام “ كانت تجسيدًا حقيقيا للحركة الوطنية الذي قمعها نظام الإمام الدموي بعد فشل ثورة 48 م ، فتقول : “ لم تكن صحيفة “ السلام “ التي أسسها المناضل والثوري الكبير الشيخ الأستاذ عبد الله علي الحكيمي إلا تعبيرا عن حركة الأحرار إثر ملاحقة رموزها وقيادتها بعد فشل حركة فبراير عام 1948م الدستورية والتي أطلق عليها الشهيد اليمني الكبير أبو الأحرار محمد محمود الزبيري اسم النكبة “ . وفي موضع آخر ، تصف تقية الصايدي صحيفة “ السلام“ : “ كانت صحيفة “ السلام “ أسبوعية سياسية وأدبية ظهر العدد الأول منها . . . في 6 ديسمبر 1948 م في كارديف بإنجلترا . وفي ست صفحات ، وكان قطعها 46 × 29 سم ، حيث كانت توزع في حدود ألفي نسخة ، ويباع العدد منها بستة سنتات ، أما الاشتراك السنوي فيها كان جنيها ً إسترلينيا “ . وتضيف : “ وقد لعبت هذه الصحيفة “ السلام “ دورًا فعالا ً في المهجر ، وفي عدن أمّا في شمال اليمن ، فقد كانت توزع لبعض المهتمين بصورة سرية “ .

أول صحيفة عربية ببريطانيا

ويسهب الأستاذ عبد الرحمن الحكيمي في وصف صحيفة “ السلام “ ، قائلا ً : أول صحيفة عربية تصدر في بريطانيا . وقد أصدرها الحكيمي في 6 ديسمبر 1948 م الاثنين 5 شهر صفر 1368 هـ بعد نكسة ثورة 48 بعشرة أشهر , وصدر منها مئة وسبعة أعداد . وتوقفت عن الصدور في عددها الأخير يوم الأحد ( 1 ) رمضان 1371 هـ 25 مايو 1952 م . وكان صدورها في مدينة كارديف نيوكاسل ببريطانيا “ . ويمضي في حديثه : “ وتعتبر من أبرز الصحف العربية في المهجر ، كرست لخدمة أهداف الحركة الوطنية اليمنية ، وخدمة المهاجرين اليمنيين وربطهم بقضية وطنهم وأوضاع وطنهم لتنقل أخبارهم وأشواقهم وتطلعاتهم لأهاليهم داخل الوطن وسائر المهاجرين ، وكذلك خدمة الجالية الإسلامية والمسلمين عموما ، وقضايا التحرر في الوطن العربي والإسلامي على وجه العموم “ . والحقيقة أنّ إيمان الثائر والمناضل الشيخ عبد الله علي الحكيمي بالقضية الوطنية غرس في نفسه روح الشجاعة والعزيمة والصبر في مواجهة الظلم والظالمين . وهذا ما أكده الأستاذ الدكتور والشاعر والكاتب الكبير عبدالعزيز المقالح، حيث قال : “ إنّ إيمان الشيخ الجليل الحكيمي بالقضية الوطنية ، قد أيقظ إرادته وأطلق لسانه ولسان قلمه ومنحه من القوة والاحتمال ما جعله قادرا على مقاومة أعتى الأنظمة وأسوأها تعاملا ً مع رعاياه المخلصين “ .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش : 

د . سيد مصطفى سالم ؛ نشاط الحكيمي قبل 1948 م ، ص 231 ، الطبعة الأولى 2001م ، الناشر : المؤتمر الشعبي العام ، مطابع دائرة التوجيه المعنوي .

فرد هوليدي ؛ الشيخ عبدالله الحكيمي ، ص 333 ، الطبعة الأولى 2001م ، الناشر المؤتمر الشعبي العام ، مطابع : دائرة التوجيه المعنوي .

عبد الرحمن عبد الله الحكيمي ؛ المناضل عبد الله علي الحكيمي صاحب صحيفة السلام حياته وجهاده (( مخطوطة )) . من أرشيف : عبد الرحمن عبد الله الحكيمي.

د . علوي عبد الله طاهر ؛ موقع صحيفة السلام في أدبيات الحركة الوطنية ، ص 273 ، الطبعة الأولى 2001 م ، الناشر : المؤتمر الشعبي العام ، مطابع دائرة التوجيه المعنوي .

تقية حسين الصايدي ؛ موقع صحيفة السلام في أدبيات الحركة الوطنية ، ص 281 ، الناشر : المؤتمر الشعبي العام ، مطابع : دائرة التوجيه المعنوي .

قدمت هذه البحوث في ندوة ( اليوبيل الذهبي لصحيفة السلام “ المنعقدة من 6 ــــ 8 ديسمبر 1998 م “ ـــ مركز الدراسات والبحوث اليمني ــــ .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق